كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير، أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنّ شَيْطَانًا تَفَلّتَ عَلَىَّ البَارِحَةَ، فأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَىَّ صَلاتِي» الحديث.
وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر. وفى مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبى الفاكه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنّ الشّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإسْلامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وآبَاءِ آبَائِكَ؟ فعصاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَماءَكَ؟ وَإِنَما مَثَلُ المهَاجِرِ كالفَرَسِ في الطول فَعَصَاهُ وَهاجَر، ثُمَّ قعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالمَال فقال: تقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ المَرْأَةُ وَيُقْسَمُ المَالُ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ».
فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير.
وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: (ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، فهو بالرصد، ولاسيما عند قراءة القرآن، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولا، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه، ثم اندفع في سيره.
ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدى كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم شرع ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحكم وغيرها.
فهذه بعض فوائد الاستعاذة.
وقد قال أحمد في رواية حنبل: (لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة، إلا استعاذ؛ لقوله عز وجل: {فَإذَا قَرَأْتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]).
وقال في رواية ابن مشيش: (كلما قرأ يستعيذ).
وقال عبد الله بن أحمد: (سمعت أبي كان إذا قرأ استعاذ، يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم).
وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: «كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قامَ إِلَى الصَّلاةِ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ يَقُولُ: أعُوذُ باللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ: مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ».
وقال ابن المنذر: «جَاءَ عَن النبي صلى الله عليه وسلم أَنّهُ كانَ يَقُولُ قَبْلَ القراءةِ: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ».
واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وهو رواية عن أحمد، لظاهر الآية، وحديث ابن المنذر.
وعن أحمد من رواية عبد الله: «أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ».
لحديث أبى سعيد، وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك:
«أَنّ النبي صلى الله عليه وسلم جَلَسَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».
وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».
وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار، واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل؛ لأن قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَان الرَّجِيمِ}[فصلت: 36].
ظاهره أنه يستعيذ بقوله(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وقوله في الآية الأخرى: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36].
يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكدة بحرف(إن) لأنه سبحانه هكذا ذكره.
وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الّلهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِه».
وقد جاء في الحديث تفسير ذلك، قال: (وهمزه: المُؤتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر).
وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ هَمَزاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97- 98].
والهمزات: جمع همزة كتمرات وتمرة. وأصل الهمز الدفع، قال أبو عبيد عن الكسائي: همزته، ولَمَزْتُهُ، ولهزته، ونهزته- إذا دفعته، والتحقيق: أنه دفع بنَخْز، وغمز يشبه الطعن، فهو دفع خاص، فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب، قال ابن عباس والحسن: (همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم) وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم، وهذا قول مجاهد، وفسرت بخنقهم وهو المؤتة التي تشبه الجنون.
وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال- وهو الأظهر- إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا، كنظائر ذلك.
ثم قال: {وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98].
قال ابن زيد: في أموري. وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن، وقال عكرمة: عند النزع والسياق، فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم له بالهمز وقربهم ودنوهم منه.
فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: {ادْفَعْ بِالتِى هي أَحْسَنُ السَّيَئةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بمَا يصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتى هي أحسن، وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم.
ونظير هذا قوله في سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم، ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه فقال: {وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيع عَلِيم} [الأعراف: 200].
ونظير ذلك قوله في سورة فصلت: {وَلا تَسْتَوِى الحسَنَةُ وَلا السيَّئِّةُ ادْفَعْ بِالتِى هي أَحْسَنُ فَإذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَة كَأنَّهُ وَلِى حَمِيم} [فصلت: 34].
فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36] وقال هاهنا: {إنه هو السميع العليم} [فصلت: 36]، فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام في: {السميع العليم} [فصلت: 36]. وقال في الأعراف: {إِنَّهُ سَمِيع عَلِيم} [الأعراف: 200].
وسر ذلك- والله أعلم- أنه حيث اقتصر على مجرد الاسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم، فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك، فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه، وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة، وهذا المعنى شامل للموضعين، وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص؛ لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمهم به، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصاَرُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلِكنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مما تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ} [فصلت: 22- 23].
فجاء التوكيد في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].
في سياق هذا الإنكار: أى هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون، وحسن ذلك أيضا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم، وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبه بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ.
وأيضا فإن السياق هاهنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] وبقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أنك تَرَى الأرْضَ خَاشِعَة} [فصلت: 39].
فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه(السميع العليم) كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة، والذى في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربا يسمع ويعلم، وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها، فإنه سميع عليم، وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، فكيف تُسَوُّونها به في العبادة، فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير، كما لا يليق بذلك غير التعريف، والله أعلم بأسرار كلامه.
ولما كان المستعاذ منه في سورة(حم المؤمن) هو شر مجادلة الكفار في آياته وما ترتب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر قال: {إِنَّ الَّذِينَ يجادِلُونَ في آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ في صُدُورِهِمْ إِلا كِبْر مَا هُمْ بِبَالِغيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرُ} [غافر: 56].
فإنه لما كان المستعاذ منه كلامه وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: {إنه هو السميع البصير} [غافر: 56]، وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا، فإنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه. بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله. اهـ.